المقدمة: الشركات العائلية بين القوة الاقتصادية والتحدي التنظيمي
تُعد الشركات العائلية أحد الركائز الأساسية للاقتصاد السعودي، حيث تشكّل نسبة مؤثرة من النشاط التجاري، وتسهم بفاعلية في الناتج المحلي الإجمالي، وتوفر فرص عمل واسعة في مختلف القطاعات. وعلى الرغم من هذه الأهمية الاقتصادية، تواجه الشركات العائلية تحدياً بنيوياً معقّداً يتمثل في التداخل بين الاعتبارات العائلية ومتطلبات الإدارة التجارية الحديثة.
ويزداد هذا التحدي حدةً عند انتقال الملكية والإدارة من الجيل المؤسس إلى الجيل الثاني ثم الثالث، حيث تظهر إشكالات قانونية وإدارية تتعلق بالحوكمة، وصلاحيات الإدارة، وتوزيع الملكية، واستمرارية القرار. وقد جاء نظام الشركات السعودي الجديد الصادر عام 2022 ليستجيب لهذه التحديات، من خلال توفير إطار قانوني أكثر مرونة يراعي خصوصية الشركات العائلية دون الإخلال بالمبادئ النظامية العامة.
أولاً: حوكمة الإدارة وصراع المصالح داخل الشركات العائلية
1. التداخل بين الأدوار العائلية والإدارية
من أبرز التحديات التي تواجه الشركات العائلية التداخل الواضح بين:
-
الصفة القانونية داخل الشركة (مالك، شريك، مدير، موظف)
-
والصفة العائلية (أب، ابن، أخ، قريب)
هذا التداخل يؤدي في كثير من الحالات إلى صعوبة تطبيق معايير الحوكمة الرشيدة، مثل الشفافية والمساءلة، ويجعل القرارات الإدارية عرضة للتأثر بالاعتبارات الشخصية والعائلية، لا بالمعايير المهنية والتجارية.
2. مركزية القرار لدى الجيل المؤسس
غالبًا ما يحتفظ الجيل المؤسس بكامل الصلاحيات الإدارية والمالية، ما يحدّ من:
-
تفويض الصلاحيات
-
تمكين الكفاءات الشابة من داخل العائلة
-
أو الاستعانة بإدارة تنفيذية محترفة من خارجها
ويترتب على ذلك إعاقة التطوير المؤسسي، وتأخير انتقال القيادة بشكل منظم.
المعالجة في نظام الشركات السعودي
لم يفرض النظام الجديد نموذجًا إلزاميًا موحدًا، لكنه شجّع صراحةً على اعتماد “ميثاق العائلة” (Family Charter) بوصفه أداة تنظيمية مرنة.
ويُعد ميثاق العائلة وثيقة اتفاقية غير إلزامية نظامًا، لكنها:
-
تُنظم العلاقة بين العائلة والشركة
-
تحدد سياسات التوظيف والترقية والتعويض
-
تضع آليات واضحة لحل النزاعات الداخلية
ويسهم ذلك في تقليل احتمالية تصعيد الخلافات العائلية إلى النزاعات القضائية.
ثانيًا: التحديات التمويلية وإعادة هيكلة الملكية
1. تفتت الحصص وصعوبة اتخاذ القرار
مع انتقال الملكية إلى الأجيال اللاحقة، يتزايد عدد الشركاء من الورثة، ما يؤدي إلى:
-
تفتت الحصص
-
صعوبة تحقيق النصاب المطلوب لاتخاذ قرارات استراتيجية
-
نشوء خلافات حول سياسات توزيع الأرباح أو إعادة استثمارها
2. إشكالية التخارج (Exit Strategy)
تُعد مسألة خروج أحد الشركاء العائليين من الشركة من أكثر المسائل تعقيدًا، خاصة في ظل:
-
صعوبة تقييم الحصة بشكل عادل
-
تخوف العائلة من دخول أطراف خارجية تؤثر على خصوصية الشركة
-
غياب آليات مسبقة منظمة للتخارج
المعالجة النظامية
أتاح نظام الشركات الجديد مرونة أكبر في:
-
اختيار الشكل النظامي للشركة
-
إعادة هيكلة الملكية
-
تنظيم العلاقة بين الشركاء
كما شجّع النظام على اللجوء إلى التحكيم ووسائل التسوية البديلة في النزاعات بين الشركاء، بما يحدّ من النزاعات القضائية طويلة الأمد ويحافظ على استقرار الكيان التجاري.
ثالثًا: التخطيط للانتقال والتوارث (Succession Planning)
1. فجوة القيادة بين الأجيال
يُعد غياب التخطيط المسبق لانتقال القيادة من أخطر التحديات التي تهدد استمرارية الشركات العائلية. فعدم إعداد الجيل الثاني أو الثالث لتحمّل المسؤولية الإدارية يؤدي غالبًا إلى:
-
فراغ قيادي
-
ارتباك في اتخاذ القرار
-
تراجع الأداء بعد غياب المؤسس
2. ارتباط التوارث بالنزاعات الشرعية
عند وفاة المؤسس، تدخل الشركة ضمن التركة، وقد تخضع لإجراءات الحصر والقسمة، ما قد يؤدي إلى:
-
تعطيل النشاط التجاري
-
نزاعات بين الورثة
-
تهديد استمرارية الشركة ككيان منتج
المعالجة في الإطار النظامي
أكّد النظام على أهمية التخطيط المسبق للانتقال، وشجّع على:
-
الفصل بين الملكية والإدارة
-
تعيين إدارة تنفيذية محترفة تتولى التشغيل اليومي
-
احتفاظ العائلة بدورها الإشرافي عبر مجلس العائلة ومجلس الإدارة
ويسهم هذا النموذج في ضمان استمرارية الشركة بعيدًا عن النزاعات العائلية المباشرة.
الخاتمة: الحوكمة كطريق وحيد لاستدامة الشركات العائلية
لم يأتِ نظام الشركات السعودي الجديد بحلول جامدة، بل منح الشركات العائلية مساحة تنظيمية مرنة تمكّنها من تصميم هياكلها الخاصة بما يتناسب مع ثقافتها وحجمها وطبيعة نشاطها. ويُعد ميثاق العائلة والتخطيط للانتقال بين الأجيال من أهم الأدوات التي يوفّرها النظام لتحقيق الاستدامة.
إن بقاء الشركات العائلية واستمرار نموها لا يتحقق إلا من خلال:
-
حوكمة رشيدة
-
فصل واضح بين الملكية والإدارة
-
تنظيم العلاقة العائلية في إطار قانوني مسبق
ويظل الدور المحوري للمحامي والمستشار القانوني متمثلًا في صياغة هذه المواثيق والهياكل القانونية بما يحمي الشركة من التفكك، ويضمن انتقالها الآمن من جيل إلى جيل، بوصفها إرثًا اقتصاديًا وطنيًا.
إضافة تعليق جديد